اللاعبون الكبار في العالم اليوم يعرفون أنه لايمكن ضبط مصالحهم السياسية ونفوذهم الدولي إلا بتدجين كل الخطابات الدينية الكبرى لتنسجم مع متطلبات الهيمنة الغربية عامة والأمريكية خاصة. ولذلك تنفق المؤسسات الأمريكية المعنية ثروات ضخمة على مراكز البحوث والدراسات وتقارير الرصد الدقيق والمستمر لكل بؤر التوتر بشكل عام، والحراك الديني الإسلامي بشكل خاص. ومن أطرف الدراسات التي يطرحها الأمريكيون تلك الأوراق التي تستعرض الخطابات الدينية الإسلامية وتوازن بينها لتحديد أفضل تلك الخطابات في التناغم مع الهيمنة الأمريكية وعدم التحرش بها أو التشويش عليها.

أما أبرز وسائل السياسة الأمريكية لتحقيق هذا الغرض فهو –كما يعرف الجميع- الضغط المباشر وغير المباشر على النظم السياسية العربية لتمكين الآيديولوجيات المنسجمة أو المتحاشية لإرباك استقرار المصالح الأمريكية، ولذلك تجد المساحة الواسعة في وسائل إعلامنا لليبرالية (آيديولوجية الغرب) ورموز الخطاب الدعوي المدجّن الذين يدفعون باتجاه إماتة مفاهيم العزة العقدية والاستعلاء الديني على الفكر الغربي، وحقن المستمع بمشاعر الانكسار والهزيمة أمام الغرب الهائل المتفوق المبدع الحضاري المتقدم في جميع مجالات الحياة الخ الخ من الأوصاف التهويلية التي تستبعد من الصورة الانحطاط الغربي في أعظم المطالب كالجهل بالله –وهو أعظم مطلوب- والفواحش، والجريمة، والمادية البائسة، والحياة الحيوانية البهيمية التي وصفها الله بقوله في سورة الفرقان (إنهم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا).

المهم أن هؤلاء الرموز الذين بدأو في سلسلة تدجين الخطاب الدعوي، مدعومين بالأذرعة الإعلامية الليبرالية، صارو بين فينة وأخرى يطرحون تأويلات للأحكام الشرعية المتعارضة مع المصالح الغربية والنظرة والغربية والقيم الغربية، وبعضهم فيه سذاجة فيتعجل بالطرح فينكشف ويسقط، وبعضهم فيه دهاء فطري بحيث يطرح سلسلة التدجين تدريجياً وبلغة هادئة لتتشربها الشريحة المستهدفة بشكل بطئ لكنه أكيد المفعول، وقد وصف الإمام ابن تيمية هذا الأسلوب لأهل الأهواء بقوله:

وهذا شأن كل من أراد أن يظهر خلاف ما عليه أمة من الامم من الحق؛ إنما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم، فان شياطين الانس والجن لا يأتون ابتداءً ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة، فإنهم لا يتمكنون..، والغرض هاهنا التنبيه على أن دعاة الباطل المخالفين لما جاءت به الرسل يتدرجون من الأسهل الأقرب إلى موافقة الناس، إلى أن ينتهوا إلى هدم الدين) [بيان تلبيس الجهمية، لابن تيمية]    

كثير من الشباب اليوم يتوهم أنه يعيش انفتاح وتجديد بين مجموعة من المنغلقين، ولايعلم أنه ضحية لمؤامرة سياسية كبرى تستهدف بطرق متنوعة إعادة ترميم الإسلام لينسجم مع مصالح اللاعبين الكبار، وأطرف مافي الأمر أن بعض هؤلاء الشباب ينعى على علماء ودعاة أهل السنة ضعف الوعي السياسي، ولايعلم أنه هو الذي يدار بخيوط السياسة من بعيد!

كان أحد الأصدقاء يقول لي أليس من السذاجة أن  تفكرون أن ثمة مؤامرة؟! قلت له: إذا كنت تتصور امبراطورية عسكرية بحجم أمريكا ولاتفكر بإدارة مصالحها، وأن تتكيف مع هيمنتها الخطابات الثقافية عبر العالم؛ فهذه والله هي السذاجة. إذا كنت ترى كيف هبطت عشرات المقالات في يومين في صحافتنا المحلية كلها تهاجم شخصاً واحداً أعقب ذلك مباشرة فصله من الوظيفة، ولازلت تفكر بأنه ليس هناك مؤامرات؛ فهذه والله هي السذاجة! إذا كنت ترى القرآن نفسه يتحدث ويصف ويصور المؤامرات كما يقول تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) [الأنعام: 123] فانظر كيف أن المتآمرين موجودون في كل بقعة من الأرض كما تنص الآية، وأنهم يتآمرون! بل ووصف الله تعالى تواصل مؤامراتهم وعدم انقطاعها كما في قوله تعالى (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [سبأ:33] ووصف الله شدة شدة مؤامرات أهل الضلال بقوله (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم: 46]  . والمراد أن “التفسير التآمري” حقيقة قرآنية وواقع مشهود لاينكره إلا مستغفل أو مستفيد، وليس الخطأ في الوعي بهذه المؤامرات التي تحاك الليل والنهار حتى تكاد تزول منها الجبال، وإنما الخطأ هو التهور في المغالاة في هذا الأمر حتى يجعل ماليس فيه قرائن مؤامراتيه مؤامرة، فهذا هو الخطأ، ولكن هذا الخطأ لايعالج بإلغاء المفهوم القرآني والواقعي!  

لنعد إلى موضوعنا..

         تأمل في كل الملفات الشرعية الملتهبة اليوم تجدها في المسائل محل التعارض بين الوحي والغرب: الولاء والبراء، الجهاد، تحكيم الشريعة، قتل المرتد، الحجاب، الاختلاط، السفر بلامحرم، القوامة، الرقية الشرعية، المعازف، الخ الخ هل إثارة الغبار في وجه هذه المسائل دون غيرها حدث هكذا اعتباطاً!  

أحد هذه المفاهيم التي بدأ اليوم يرددها هؤلاء، أعني رموز تدجين الخطاب الدعوي؛ هو زعمهم بأن (الجهاد في الاسلام هو جهاد دفع فقط)! وحاولوا أن يحتجوا بالنصوص التي أمرت المسلمين أن يدافعوا، ثم يؤكدون ذلك بأن غلاة الجهاديين هم الذين استحدثوا هذه المفاهيم!  

أولاً : يجب أن نقرر أن حركة (الغلو في الجهاد والتكفير) التي صار لها دوي إعلامي في الحقبة السابقة، ليست بالنسبة للاتجاه الاسلامي العام إلا شريحة محدودة جداً، أما جماهير الشباب الإسلامي –والله الحمد- فهم يحبون ويعتزون بالجهاد الشرعي المنضبط بضوابط الشريعة، ولايكفرون إلا من كفّره الله ورسوله، ويرجعون لأهل العلم الربانيين في أمثال هذه المسائل، لكن الإعلام الليبرالي يضخم شريحة الغلاة ليخلق مسوغات ومبررات وجوده، فالليبراليون جميعاً يعلمون أن مبرر وجودهم لدى الحكومة هو مايسمونه “الخطر الجهادي والتكفيري”، ولذلك يهولون في تصوير هذا الخطر للاحتفاظ بدورهم، وليس من مصلحة الليبراليين أبداً نهاية هذه الشريحة، لأنه يعني أنه انتهت خدماتهم، تماماً كما أن الحارس عادة يبالغ في تصوير انتشار اللصوص ليزيد علاوته.

وأما ثانياً فإن “شريحة الغلاة” المحدودة جداً، والتي لاتتجاوز قائمة مطلوبين صغيرة مع مثلهم من المتعاطفين؛ لم يقاومها إلا علماء ودعاة أهل السنة، فهم الذين وأدوا الفتنة في مهدها، وأما إذا كانت الصحافة الليبرالية تتوقع أنها هي التي أقنعت الشباب الإسلامي بخطأ أفكار الغلاة فهم يعيشون أوهاماً لذيذة!  

حسناً لنعد الآن إلى رموز تدجين الخطاب الدعوي، ومايقولونه من أن الجهاد في الإسلام ليس إلا جهاد الطلب، أريد فقط أن أسألهم سؤالاً وأقول لهم: هبوا أننا فعلاً أوّلنا كل نص في القرآن يأمر بالجهاد على أنه (جهاد الدفع) ، فماذا سنفعل بنصوص الغزو، والغزاة، والغازي؟! ماذا سنفعل بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) [آل عمران:156] فهؤلاء خارجون للغزو، ولم يكونوا باقين في بلدهم للدفع فقط! ولذلك قال المنافقون لو كانوا عندنا! فبالله عليكم قولوا لنا: كيف سنفعل بآية (جهاد الغزو) هذه؟   وكيف سنفعل بأحاديث (جهاد الغزو) في الصحيحين؟! كحديث البخاري عن أنس (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا غزا بنا قوما؛ لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم) فبالله عليكم الرسول يصبح القوم غازياً، ويغير عليهم، فهل هذا جهاد دفع أيضاً؟! ، وما أكثر نصوص فضل الغزو وتجهيز الغازي في الصحيحين. وتأملوا يارحمكم الله في قوله تعالى (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة:92]. فبالله عليكم هل يسافر الرسول –صلى الله عليه وسلم- لأجل جهاد دفع؟! ويعجز بعض أصحابه عن مشاركته لعدم وجود عدة السفر، هل يكون ذلك في جهاد دفع؟! أم هي حرب طلب استباقية لمجرد الخبر بوجود استعدادات رومانية؟! 

حسناً.. دعونا مما سبق كله، أنتم تقولون أن الجهاد دفع لا طلب، ألا تستحون من كون الله تعالى نص على النوعين وقسمهما هذا التقسيم فقال تعالى ( وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) [آل عمران: 167] فلو كان الدفع هو المقاتلة فلم ميّز بينهما إذن؟!

     ولو تأملت في مفهوم (جهاد الدفع) وهو أن تدافع عن نفسك ضد من يهاجمك، فهذا أمر تقره الثقافة النظرية الغربية، لأنها ثقافة مادية، لكن جهاد الطلب لايعرفه إلا أصحاب المبادئ الذين يضحون بأرواحهم لأجل المبدأ، ولذلك يقول ابن القيم في ملاحظة ذكية:

(جهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين) [الفروسية، لابن القيم]

كنا سابقاً نحزن أن الله لم يشرفنا بالمشاركة في جهاد شرعي سني صحيح يوجهه الربانيون من أهل العلم، كما كان لرسول الله وأصحابه وأئمة الهدى من بعدهم، لكن كنا نؤمل عفو الله بحبل أخير بيننا وبين ربنا وهو أننا كنا “نحدث أنفسنا بالغزو” ونأمل من الله أن يسلمنا من النفاق بمثل ذلك، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه؛ مات على شعبة من نفاق)، ثم جاء هؤلاء وحرمونا من هذه الصلة الأخيرة مع الله، وصاروا يقولون حتى تحديث النفس بالغزو خطأ لأن الجهاد في الإسلام ليس فيه غزو! حتى هذه الرابطة القلبية الأخيرة مع الله حرمتمونا منها، وصرنا لاغزو ولاتحديث نفس بالغزو، فاللهم رحماك رحماك من شعب نفاق تردينا، وإنا لله وإنا إليه راجعون من غربة دين الله في هذا الزمان.   على أية حال .. ليس المهم الآن القيام بهذه الشعيرة، لأننا قد نكون معذورين بعدم وجود الإعداد الكافي للقيام بجهاد الطلب، لكن المهم الآن -وهو الذي لن يسامحنا الله فيه- إنما هو (المحافظة على المفاهيم الشرعية ضد التزوير) الذي يتم عبر تأثير موجّه ومتنوع من الضغوط الأمريكية على النظم العربية لتمكين الخطابات الفكرية والدعوية المدجنة المنسجمة مع متطلبات النفوذ الأمريكي.

أبو عمر

صفر 1431هـ

6 فبراير 2010