دوي الليالي الرمضانية

أضف تعليق

  

الحمدلله وبعد،،  

من الذكريات التي تنتاب خاطري بشكل عشوائي صورة تتراءى لي كثيراً من أحد مساءات رمضان.. فمن المشاهد في ليالي رمضان، وخصوصاً في هذا العِقد الأخير، أن المساجد صارت تتفاوت كثيراً في توقيت صلوات التراويح والتهجد بحسب ما يرتاح له أهل كل حي ويتوافقون عليه.. ولذلك فكثيراً ما تكون في منزلك قد انتهيت من الصلاة بينما تسمع بعض المساجد المجاورة لا زالوا في جوف صلاتهم .. وهذا ما وقع لي ذات ليلةٍ تكاد ذكراها تتهدج في نفسي..

 

كنت في غرفتي الخاصة أعِدّ بعض الأوراق، وأمامي طبق أتت به الوالدة مما تبقى من معجنات الإفطار ودسته فوق مكتبي بلطف حتى أتناوله دون مفاوضات، يارزقني الله وإخواني القراء بر والدينا أحياءً وأمواتاً، وفي ثنايا انهماكي في هذه المهام .. تسرب من خلال النافذة صوت مسجد الشيخ القارئ خالد الشارخ، وهو مسجد تتلبد عليه وفود الشباب والفتيان من الأحياء المجاورة في شرق الرياض.. توقفت عن العمل .. وفتحت النافذة وكانت ليلة عليلة .. وكادت أذني أن تنخلع تجاه مصدر الصوت .. أظنها كانت آيات من سورة المائدة إن لم أكن واهماً .. والله إنني أكاد ألمس السكينة تتطامن فوق كل ذرةٍ حولي.. شعرت أن الهواء ليس كالهواء.. وأن السماء ليست السماء.. هناك شئٌ ما أفلست قواميس الدنيا أن تمدني بعبارة أصف بها ذلك الإحساس..

رباه .. أي شئ يفعله القرآن يا إلهي في النفوس البشرية ..

 

ومما يعبُر في بحر هذه الذكرى أنني أتذكر وأنا صغير أن أحد قريباتي المسنّات كانت إذا عادت من صلاة التراويح اتجهت إلى التلفاز تشاهد نقل صلاة التراويح من المسجد الحرام.. ولا أحصي كم شهدت دمعاتها تتلامع في محاجرها حين تتسمر أمام تلك الصفوف المهيبة المطرقة حول كعبة الله المشرفة والقرآن تتجاوب به منارات الحرم وسواريه..

 

هذه الأيام التي لا يفصلنا فيها عن رمضان إلا مسيرة ثلاثة أيام، يكثر فيها تبادل التهاني والدعوات، بلغنا الله وإياك رمضان، وفقنا الله وإياك لصيام رمضان وقيامه، أحببت أن أبارك لك قدوم الشهر الكريم، الخ .. حين رأيت بعض هذه التهاني دار في بالي أن أنظر كيف عرض الله لنا (رمضان) ؟

في أي إطار وضع الله (شهر رمضان) ؟ أو بمعنى آخر: ما هي (هوية رمضان) بحسب الصورة التي يقدمها الله لنا؟

 

حين أخذت أتأمل الآيات القرآنية التي تعرضت لرمضان في القرآن، وجدته جاء في صيغتين، صيغة الشهر الكامل (رمضان)، وجاء في صيغة جزئية أي بعض أيامه فقط، وهي (ليلة القدر).

 

في الصيغة التي جاء فيها بذكر الشهر الكامل (رمضان) قال الله عنه (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة، 185] فعرّفه الله لنا بأنه الظرف الزماني للقرآن.

 

وفي الصيغة التي أشير فيها لرمضان بصورة جزئية، وهي أحد لياليه، جاءت في موضعين، مرةً باسم (ليلة القدر) ومرةً باسم (الليلة المباركة)، فأما باسم ليلة القدر فيقول تعالى في مطلع سورة القدر (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر، 1] ، وأما باسم الليلة المباركة فيقول تعالى في مطلع سورة الدخان (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان، 3].

وفي كلا الموضعين ذكر الله هذه الليلة عبر علاقتها بالقرآن!

 

يا لربنا العجب .. في المواضع التي ذكر الله فيها رمضان، بصيغة الشهر الكامل وبصيغة الليالي الجزئية، تم تقديمه في إطار علاقته بالقرآن .. أي إشارة لخصوصية القرآن في رمضان أكثر من ذلك.. استعرض كل شهور السنة الفاضلة.. شهور الحج.. الأشهر الحرم.. لن تجد كثافة في الإشارة للقرآن كما تجده في علاقة القرآن برمضان..

 

بل ثمة أمر قد يكون أشد لفتاً للانتباه من ذلك، أنه ليس فقط إنزال القرآن اختار الله له رمضان، بل حتى (مراجعة القرآن) مع النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار الله لها رمضان! فكان جبرائيل عليه السلام –وهو أعظم الملائكة لأنه اختص بنقل كلام الله- يعقد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مجالس مسائية في كل ليلة من رمضان لمراجعة القرآن، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال (كان جبريل يلقى النبي في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن) [البخاري، 4997]

 

لماذا اختار الله تحديداً هذا الشهر –أيضاً- لمراجعة القرآن؟ أليس في هذا إلماحاً إلى أن الساعات الرمضانية هي أشرف الأزمان وأليقها بالقرآن؟ هل هناك لفت للانتباه لخصوصية القرآن في رمضان أكثر من هذه الإشارات في اختيار توقيت نزول القرآن، واختيار توقيت مراجعته؟

 

 

والحقيقة أن هذه المدارسة إذا أخذ يتخيلها الإنسان تستحوذ عليه المهابة .. من يتصور؟ مجلس ليلي رمضاني لمراجعة القرآن، طرفاه أعظم إنسان (محمد بن عبدالله) وأعظم ملَك (جبرائيل) وموضوع الدرس أعظم الكلام (كلام ملك الملوك) .. يا ألله .. أي هيبة تقبض على النفوس بمجرد تخيل ذلك..

 

ولذلك فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- نفسه يتأثر كثيراً بهذه المدارسة القرآنية الرمضانية مع جبرائيل، وكان الصحابة يرون أثرها أمامهم على شخصية رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حتى كان يقول ابن عباس كما في البخاري (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) [البخاري، 3220].

 

انظر كيف كان جود رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يزداد بمدارسته القرآن مع جبريل، إذا كان هذا رسول الله الذي نزل عليه القرآن ومع ذلك ينتفع بمدارسته، فكيف بالله عليكم ستكون حاجتنا نحن أصحاب القلوب التي أمرضتها الشهوات والشبهات..؟! أي حرمان أوقع فيه بعض المتثيقفة أنفسَهم حين أوهموا أنفسهم أنهم يعرفون القرآن وقرؤوه ولا حاجة لهم إلى إستمرار تلاوته وتدبره ومدارسته، فكل ما في القرآن سبق أن اطلعوا عليه!

 

أشهر فعالية اجتماعية في شهر رمضان هي طبعاً (صلاة التراويح).. هل سألت نفسك يوماً ماهي الحكمة من صلاة التروايح؟ دعني أكون شفافاً معك فالحقيقة أنه لم يسبق لي أصلاً أن تساءلت هذا السؤال، ولكن كنت مرةً أطالع فتاوى محقق العلوم ابوالعباس ابن تيمية فرأيته يقول رحمه الله (بل من أجلِّ مقصود التراويح قراءة القرآن فيها، ليسمع المسلمون كلام الله) [الفتاوى 23/122]

سبحان من فتح على ذلك العقل الحراني في فهم أسرار الشريعة..

 

وإذا تأمل المرء النسبة بين رمضان الذي هو وقت الصوم ووقت نزول القرآن، أدرك شيئاً من النسبة بين يوم الاثنين واستحباب صيام النفل فيه، وهو ما أشار له النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم (سئل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم الاثنين قال “ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه”). [مسلم، 2804]

فلاحظ بالله عليك هذا الخيط الرفيع بين كون شهر رمضان الذي يجب صومه هو شهر نزول القرآن، ويوم الاثنين الذي يستحب صومه هو يوم نزول القرآن.

هل من المعقول أن تكون هذه التوقيتات الزمنية لا تحمل دلالات شرعية ورسائل تضمينية؟

 

بل ومن الموافقات التاريخية العجيبة أن أشهر جهاد للسلف في القرآن كان فتنة الإمام الاحمد المعروفة في مسألة القرآن، وهذه الحادثة العقدية القرآنية وقعت في رمضان كما ذكر المؤرخون!  قال الذهبي (وفي رمضان كانت محنة الإمام أحمد في القرآن، وضرب بالسياط حتى زال عقله) [النبلاء، 10/292].

فسبحان من أنزل القرآن في رمضان، وابتلى أئمة السلف بالجهاد للقرآن في رمضان! وهذا مجرد توافق تاريخي لكن فيه شئ لطيف مما تستطرفه النفوس..

 

وإذا حاول المرء أن يتأمل في سر العلاقة بين رمضان والقرآن، أو أزمان الصيام والقرآن، فإنه يمكن أن تكون العلاقة أن الصيام يهذب النفس البشرية فتتهيأ لاستقبال القرآن، ففي أيام الصيام تكون النفس هادئة ساكنة بسبب ترك فضول الطعام .. وهذا يعني أن من أعظم ما يعين على تدبر القرآن وفهمه التقلل من الفضول.. مثل فضول الطعام، وفضول الخلطة مع الناس، وفضول النظر، وفضول السماع، وفضول تصفح الانترنت.. فكلما  زالت حواجز الفضول تهاوت الحجب بين القلب والقرآن..

 

وبعض الناس يتساءل ويقول: ماذا أتدبر بالضبط في القرآن؟ والحقيقة أن القرآن فيه حقائق وإشارات كثيرة تحتاج إلى التدبر، ثمة مفاتيح كثيرة لفهم القرآن..

 

أعظم وجوه ومفاتيح الانتفاع بالقرآن تدبر ما عرضه القرآن من (حقائق العلم بالله) فما في القرآن من تصورات عن الملأ الأعلى هي من أعظم ما يزكي النفوس، وكثيراً من المنتسبين للفكر المعاصر يظن الأهم في القرآن هو التشريعات العملية، وأما باب العلم الإلهي فهو قضية ثانوية، ولا يعرف أن هذا هو المقصود الأجل والأعظم، ولذلك قال الإمام ابن تيمية (فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدراً وصفة) [درء التعارض، 5/358].

 

وأنا شخصياً إذا التقيت بشخصية غربية متميزة في الفكر أو القانون أو غيرها من العلوم أجاهد نفسي مجاهدة على احترام تميزه، لأنني كلما رأيتهم في غاية الجهل بالله سبحانه وتعالى، امتلأت نفسي إزراءً بهم، ما فائدة أن تعرف تفاصيل جزء معين من العلوم وأنت جاهل بأعظم مطلوب للإنسان.. إنه لا يختلف عن سائق مركبة يتقن تفاصيل بعض الطرق الفرعية ويجهل الطرق الرئيسية في المدينة.. فهل مثل هذا يصل؟! أي تخلف وانحطاط معرفي يعيشه هؤلاء الجهلة بالعلم الإلهي.. ويؤلمني القول بأن كثيراً من المنتسبين للفكر العربي المعاصر يجهلون دقائق العلم بالله التي عرضها القرآن.. وأما من تأمل رسالة الإمام أحمد في الرد على الزنادقة، ورسالة الدارمي في النقض على المريسي، فستسحوذ عليه الدهشة من عمق علمهم بالقرآن ومافيه من أسرار المعرفة الإلهية، وشدة استحضار الآيات وربط ما بينها..

 

ومن وجوه الانتفاع بالقرآن –أيضاً- تدبر أخبار الأنبياء التي ساقها القرآن وكررها في مواضع متعددة، وبدهي أن هذه الأخبار عن الأنبياء ليست قصصاً للتسلية، بل هي (نماذج) يريد القرآن أن يوصل من خلالها رسائل تضمينية، فيتدبر قارئ القرآن ماذا أراد الله بهذه الأخبار؟ مثل التفطن لعبودية الأنبياء وطريقتهم في التعامل مع الله كما قال الإمام ابن تيمية  (والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء، وتوباتهم، واستغفارهم) [الرد على البكري].

 

وتلاحظ أن الله يثنّي ويعيد قصص القرآن في مواطن متفرقة، وليس هذا تكراراً محضاً، بل في كل موضع يريد الله تعالى أن يوصل رسالةً ما، وأحياناً أخرى يكون في كل موضع إشارة لجزء من الأحداث لايذكره الموضع الآخر، كما قال الإمام ابن تيمية مثلاً (وقد ذكر الله قصة قوم لوط في مواضع من القران في سورة هود والحجر والعنكبوت، وفي كل موضع يذكر نوعاً مما جرى) [الرد على المنطقيين].

 

والمهم هاهنا أن تدبر أخبار الأنبياء، وأخبار الطغاة، وأخبار الصالحين، في القرآن، ومحاولة تفهم وتحليل الرسالة الضمنية فيها؛ من أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن.

 

ومن أعظم وجوه الانتفاع بالقرآن –أيضاً- أن يضع الإنسان أمامه على طاولة التدبر كل الخطابات الفكرية المعاصرة عن النهضة والحضارة والتقدم والرقي والاصلاح والاستنارة الخ.. ويضع كل القضايا التي يرون أنها هي معيار التقدم والرقي .. ثم يتدبر قارئ القرآن أعمال الإيمان التي عرضها القرآن كمعيار للتقدم والرقي .. تأمل فقط بالله عليك كيف ذكر الله الانقياد والتوكل واليقين والاخلاص والاستغفار والتسبيح والصبر والصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخ في عشرات المواضع .. بل بعض هذه الأعمال بعينها ذكرت في سبعين موضعاً .. ثم قارن حضور هذه القضايا في الخطابات الفكرية لتجده حضوراً شاحباً خجولاً .. أي إفلاس فكري أن تكون الأعمال التي يحبها الله ويثنيّ بها ويجعلها مقياس الرقي والتقدم والتنوير هي في ذيل القائمة لدى الخطابات الفكرية المعاصرة المخالفة لأهل السنة .. يا خيبة الأعمار ..

 

 

حين يتدبر قارئ القرآن كيف وصف الله القرآن بأنه هدى وبينات ونور فإنه يستنتج من ذلك مباشرة بأن مراد الله من عباده في القرآن ليس لغزاً .. هل يمكن أن يكون الله تعالى يعظم ويمنح الأولوية لتلك القضايا التي ترددها الخطابات الفكرية ثم يكرر في القرآن غير ذلك؟! هل القرآن يضلل الناس عن مراد الله؟! شرّف الله القرآن عن ذلك، ولذلك كان الامام ابن تيمية يقول (وما قصد به هدى عاماً كالقرآن، الذي أنزله الله بياناً للناس، يذكر فيه من الادلة ما ينتفع به الناس عامة). [الفتاوى، 9/211]

 

وهذا لا يعني أن الأئمة الربانيين لا يختصهم الله بمزيد فهم للقرآن، وتتكشف لهم دلالات وأسرار لا تنكشف لغيرهم من الناس، فالقلب المعمور بالتقوى يبصر ما لا يبصره من أغطشت عينه النزوات، نسأل الله أن يسبل علينا ستر عفوه، وقد أشار الإمام ابن تيمية لذلك في مواضع كثيرة من كتبه، كقوله  (ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلاً لا ينضبط لنا، والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يتفاضلون في فهمه تفاضلاً عظيماً، وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات) [درء التعارض].

 

ومن أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن –أيضاً- أن يستحضر متدبر القرآن أن جمهور قرارات القرآن وأحكامه على الأعيان والأشياء إنما هي (أمثال)، ومعنى كونها أمثال أي (يعتبر بها ما كان من جنسها) بمعنى أن القرآن يقدم في الأصل نماذج لا خصوصيات أعيان، وقد أشار القرآن لذلك كثيراً كقوله تعالى في سورة الحشر (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، وقوله في سورة الروم (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).

فماذا يريد الله في مطاوي هذه الأمثلة القرآنية؟ هذا أفق واسع للتدبر..

 

لا شك أن تنبيهات القرآن على مركزية (تدبر القرآن) في صحة المنهج والطريق أنها دافع عظيم للتدبر .. لكن ثمة أمراً آخر على الوجه المقابل لهذه القضية .. معنى منذ أن يتأمله الإنسان يرتفع لديه منسوب القلق قطعاً .. وهو أن من أعرض عن تدبر القرآن فإن الله قدر عليه أصلاً ذلك الانصراف لأن الله تعالى سبق في علمه أن هذا الإنسان لا خير فيه، ولو كان في هذا المعرض خير لوفقه الله للتدبر والانتفاع بالقرآن، وقد شرح القرآن هذا المعنى في قوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال، 23].

 

كلما رأى الإنسان نفسه معرضاً عن تدبر القرآن، أومعرضاًَ عن بعض معاني القرآن، ثم تذكر قوله تعالى (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم) يجف ريقه من الهلع لا محالة..

 

على أية حال .. رمضان على الأبواب .. وهذا موسم القرآن ولكل شئ موسم.. (والقرآن مورد يرده الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له) [درء التعارض].

 

أبو عمر

شعبان 1431هـ

8 أغسطس 2010

منـازل الأشعـريين

أضف تعليق

منّة الاختراع

2 تعليقان

الحمدلله وبعد،،

طوال آيات القرآن يجد المرء كثرة امتنان الله على الناس بتسخير الآيات العظيمة لهم كالشمس والقمر والليل والنهار والرياح والمطر والأنعام والطيور وغيرها ..   يستطيع المرء أن يفهم جيداً وجه الامتنان على الناس بهذه الآيات العظيمة التي خلقها الله لهم وجعلها من أساسيات المعيشة الكريمة على كوكب الأرض .. فهذه الآيات تدور حول الأغذية والبيئة والصحة ونحوها من أسس الوجود البشري..   بل إن كثيراً من الناس حين يذكّرهم شخص بوجوب حمد الله وشكره على نعمه فإن أذهانهم تنصرف دوماً إلى نعمة الرزق والولد والمطر والأمن ونحوها..   لكن هناك مستوى آخر من المنن ذكره القرآن .. منّةٌ قليل من الناس من يتفطن لها .. بل كثيرمن الناس قلب معناها الذي أشار له القرآن للأسف.. هذه المنة ليست امتنان الله على الناس بمصنوعات الله المحضة؛ بل الامتنان على الناس بما هو من مخترعاتهم أنفسهم!   أن يذكّر الله العباد بآيات خلقها الله بصورة محضة كالمطر والشمس والقمر ونحوها فهذا أمر مدرَك لدى الكثيرين .. لكن أن يمتن الله على الناس بما أبدعوه بأنفسهم! ويجعل هذا من آيات عظمة الله ذاته فهذا معنى يغيب عن الكثيرين ..   هذا القصور في فهم وجه امتنان الله على الناس بما هو من ابداعاتهم واختراعاتهم من أسباب اهتزاز إيمان كثير من المنتسبين للثقافة لما رأو انفجار العلوم والمخترعات الإنسانية في هذا العصر.. وصار كل تطور علمي يشاهدونه يسحب المزيد من رصيد إيمانهم وثقتهم بدينهم.. لماذا؟ لأنهم لم يدركو سراً من أجمل أسرار القرآن .. إنه (امتنان الله على الناس بما هو من مخترعاتهم)..   حسناً .. سنتناول أمثلة لهذا التنبيه القرآني.. من أقدم الاختراعات التي اخترعها الإنسان هو (اختراع السفينة) وذلك فور احتياج البشرية إلى التنقل عبر المياه، ويذكر “جارلي” في كتابه (فلسفة بناء السفن) نقلاً عن علماء الحفريات (الأركيولوجيون) بأن أوائل صناعة السفن ظهر مع قدماء المصريين حوالي 3000 سنة قبل الميلاد وذكر شيئاً من تفاصيل طرائقهم في جمع الخشب والتنقل عبر وادي النيل (انظر: Frederick & Ward, p13) وأنا شخصياً مهزوز الثقة بهذه التعيينات التاريخية التي يذكرها الأركيولوجيون، لكن القدر الذي نجزم به أن السفينة اختراع بشري قديم..   ومع ذلك .. أي مع أن السفن هي من بنات أفكار الإنسان ومخترعاته إلا أن الله امتن على عباده بهذه السفن فقال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ).   واعتبر الله السفن من نعم الله فقال سبحانه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ).   بل قرن الله (السفن) بوسيلة نقل أخرى هي من محض خلق الله وهي (الأنعام) فقال تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ). فبالرغم من أن الأنعام من مخلوقات الله المحضة، والسفن من مخلوقات الله على يد الإنسان الذي اخترعها.. فإن كليهما جعله الله موضع امتنان، وجعلهما في نفس المرتبة وكأنهما مجرد مثالين لنوعين من الامتنان بحيث يعتبر الإنسان بهما ماكان من جنسهما..   وكان القرآن يشير في أكثر من موضع إلى جمال حركة السفن وهي تمخر عباب البحار كقوله تعالى في (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ).   فإذا تأمل متدبر القرآن كيف يمتن الله على الإنسان بالسفن برغم أنها من مخترعات بني آدم أصلاً، علم أن مخترعات وعلوم الإنسان ليست منافسة لقدرة الله، أو مزاحمة لها، بل هي مظهر إضافي جديد من مظاهر قدرة الله تورث المؤمن مزيد تعظيم لله كيف أقدر بني آدم وأمكنهم من ذلك..   حسناً .. دعنا نتأمل في نموذج قرآني آخر .. وليكن اختراع (القلم) .. فإن القلم من المخترعات المبكرة للإنسان .. ويذكر المؤرخون تطور أنواعه كالأقلام التي من ريش الطيور، وأقلام القصب، والقلم المزود بمخزن حبر، وقلم الرصاص ثم أنواع الأقلام المعاصرة، ويذكر العالم الألسني روجرز في كتابه المتميز (أنظمة الكتابة) بأن أقدم كتابة فعلية معروفة تعود إلى مدينة أوروك السومرية العتيقة (Rogers, p.84).   على أية حال .. ومع أن القلم وأنظمة وأنماط الكتابة هي ابتكارات بشرية إلا أن الله سبحانه وتعالى يمتن على عباده بهذا الذي اخترعوه هم فيقول سبحانه (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) .. بل يجعل سبحانه سورة كاملة باسم القلم يستفتحها سبحانه بالقسم بالقلم فيقول تعالى (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) ورجح كثير من المحققين أن القلم هنا هوجنس القلم..   ويمكن لمتدبر القرآن أن يرى –أيضاً- نماذج أخرى مما يمتن الله فيها على عباده بما هو من مصنوعاتهم، فمن ذلك أيضاً (فن النحت) فإنه من مبتكرات الإنسان وأفكاره وإبداعاته الجمالية، ومع ذلك فإن الله سبحانه امتن على ثمود بأعمالهم الجمالية في المدائن في الحجر شمال الجزيرة العربية فخاطبهم تعالى بقوله (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ).   ومن أعمال بني آدم ومنتجاتهم فن العمارة وتصنيع المساكن، ومع ذلك امتن الله على عباده بما هو من مصنوعاتهم فقال تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا).   ومن إبداعات الإنسان فن الغزل وصناعة النسيج، ومع ذلك يمتن الله على الإنسان بما هو من إبداعه فيقول تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ).   ومن ابتكارات بني آدم الصناعة العسكرية وأدوات الدفاع في الحروب؛ ومع ذلك يمتن الله على عباده بذلك ويسميها نعمة فيقول تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ).   والقرآن مملوء بالإشارات إلى امتنان الله وإظهار تفضله وإنعامه على العباد بما هو من مصنوعاتهم ومخترعاتهم وعلومهم، وبما بذلوا هم الجهد في علمه ومعرفته، ولن يعوز متدبر القرآن أن يجد نظائر أكثر من ذلك ..   ومن المدهش أن يلاحظ المرء كيف يؤكد الله الامتنان بكلا النوعين: بما عملته يد الله، وبما عملته أيدي المخلوقين .. فيمتن علينا فيما عملته أيدي الله فيقول (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) .. ويمتن علينا تعالى بما عملته أيدينا فيقول (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) ..  فحتى ماتعمله أيدينا إنما هو محل امتنان بقدرة الله وعظمته ونعمته لأنه هو الذي زودنا بهذه الآلات والإمكانيات..   العقل العلمي الصحيح يقوده التقدم المعرفي إلى زيادة تعظيم الله .. والعقل البليد ينصاع لعلمه بدلاً من أن ينصاع لرب علمه .. وحين يعبد الإنسان علمه الذي أنتجه بعقله، وحين يعبد الإنسان فنه الذي نحته بيده؛ فهو لايبتعد كثيراً عن قوله تعالى (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) ..   الإنسان الذي في قلبه مرض كلما رأى انفجار العلوم المعاصرة داخلَه الاستعلاء على دين ربه ومولاه، والقلب السليم كلما رأى هذه العلوم المعاصرة ودقة فنونها وصناعاتها ازداد تعظيما لربه كيف أقدر بني آدم ومكّنهم من هذا الابداع في العلوم الطبيعية والإنسانية والمفاهيم العقلية الدقيقة! كيف وضع الله في العقل البشري كل هذه الإمكانيات، في هذا الجرم الصغير (العقل) عوالم متكاملة منظمة فسبحان بديع السموات والأرض..   العلوم المعاصرة بالنسبة للرجل العاقل تزيده إيماناً، فإذا ازداد إيماناً ازداد خضوعاً وانصياعاً للوحي .. والشخص السطحي إذا رأى العلوم المعاصرة ازداد ارتياباً في ربه ودينه وشرائع الوحي، فإذا داخلته الريب وتزعزع اليقين تعثر الانقياد وفاته شرف عبودية التسليم ..   ويمكن أن يلتمس المرء في القرآن هذه العلاقة بين قصور إدراك النعم من حولنا وبين التطاول على الشريعة .. كما قال تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) فلو أدرك هذا المجادل في دين الله النعم من حوله على وجهها لقاده ذلك للانقياد وترك المجادلة في الله وفي دين الله..   كنت مرةً أقرأ مواضع من تفسير أضخم مرجعية فقهية سنية معاصرة وهو الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- فوجدته يقول: (الطائرات منة من الله عز وجل كمنته على عباده في جواري البحار، بل ربما نقول: إن السيارات أيضا من جواري البر) [تفسير سورة الرحمن، 24].   فلما قرأت ذلك أخذت أتعجب من صحة عقول أئمة أهل السنة وسلامة نظرهم، وكيف يصلون إلى المعاني الصحيحة بأيسر الطرق وأقرب الأسباب بلاتكلفات المفكرين ولاتقعرات المتفلسفة، وكيف تنسجم لديهم العلاقة بين الكوني والشرعي فيضعون لكل شئ موضعه..   والمراد من ذلك كله أن ينظر المرء كيف أن هذا التقدم العلمي المادي أنه من أدلة الإيمان والتسليم والانقياد لله وتعظيمه جل وعلا وتعظيم شريعته؛ فصيره الجهلة طريقاً لضد ذلك!  

 

 

 

أبو عمر

جمادى الثانية 1431هـ

17 مايو 2010

سطـوة القـرآن

أضف تعليق

  الحمدلله وبعد،،

 من أعجب أسرار القرآن وأكثرها لفتاً للانتباه تلك السطوة الغريبة التي تخضع لها النفوس عند سماعه .. (سطوة القرآن) ظاهرة حارت فيها العقول ..   حين يسري صوت القاري في الغرفة يغشى المكان سكينة ملموسة تهبط على أرجاء ماحولك .. تشعر أن ثمة توتراً يغادر المكان .. كأن الجمادات من حولك أطبقت على الصمت.. كأن الحركة توقفت.. هناك شئ ما تشعر به لكنك لاتستطيع أن تعبر عنه..   حين تكون في غرفتك –مثلاً- ويصدح صوت القارئ من جهازك المحمول، أوحين تكون في سيارتك في لحظات انتظار ويتحول صوت الإذاعة إلى عرض آيات مسجلة من الحرم الشريف .. تشعر أن سكوناً غريباً يتهادى رويداً رويداً فيما حولك.. كأنما كنت في مصنع يرتطم دوي عجلاته ومحركاته ثم توقف كل شئ مرة واحدة.. كأنما توقف التيار الكهربائي عن هذا المصنع مرة واحدة فخيم الصمت وخفتت الأنوار وساد الهدوء المكان..   هذه ظاهرة ملموسة يصنعها (القرآن العظيم) في النفوس تحدث عنها الكثير من الناس بلغة مليئة بالحيرة والعجب..   يخاطبك أحياناً شاب مراهق يتذمر من والده أو أمه .. فتحاول أن تصوغ له عبارات تربوية جذابة لتقنعه بضرورة احترامهما مهما فعلا له .. وتلاحظ أن هذا المراهق يزداد مناقشة ومجادلة لك .. فإذا استعضت عن ذلك كله وقلت له كلمة واحدة فقط: يا أخي الكريم يقول تعالى (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:24] رأيت موقف هذا الفتى يختلف كلياً.. شاهدت هذا بأم عيني .. ومن شدة انفعالي بالموقف نسيت هذا الفتى ومشكلته .. وعدت أفكر في هذه السطوة المدهشة للقرآن.. كيف صمت هذا الشاب وأطرق لمجرد سماع قوله تعالى (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)  .. حتى نغمات صوته تغيرت .. يا ألله كيف هزته هذه الآية هزاً ..   حين قدمت للمجتمع الغربي أول مرة قبل ثلاث سنوات اعتنيت عناية بالغة بتتبع قصص وأخبار (حديثي العهد بالإسلام) .. كنت أحاول أن أستكشف سؤالاً واحداً فقط: ماهو أكثر مؤثر يدفع الإنسان الغربي لاعتناق الإسلام؟ (حتى يمكن الإستفادة منه في دعوة البقية)، كنت أتوقع أنني يمكن أن أصل إلى (نظرية معقدة) حول الموضوع، أوتفاصيل دقيقة حول هذه القضية لايعرفها كثير من الناس، وقرأت لأجل ذلك الكثير من التجارب الذاتية لشخصيات غربية أسلمت، وشاهدت الكثير من المقاطع المسجلة يروي فيها غربيون قصة إسلامهم، وكم كنت مأخوذاً بأكثر عامل تردد في قصصهم، ألا وهو أنهم (سمعوا القرآن وشعروا بشعور غريب استحوذ عليهم) هذا السيناريو يتكرر تقريباً في أكثر قصص الذين أسلموا، وهم لايعرفون اللغة العربية أصلاً! إنها سطوة القرآن..   ومن أعجب أخبار سطوة القرآن قصة شهيرة رواها البخاري في صحيحه وقد وقعت قبل الهجرة النبوية وذلك حين اشتد أذى المشركين لما حصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب، فحينذاك أذن النبي  -صلى الله عليه و سلم- لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة، فخرج أبوبكر يريد الهجرة للحبشة فلقيه مالك بن الحارث (ابن الدغنّة) وهو سيد قبيلة القارَة، وهي قبيلة لها حلف مع قريش، وتعهد أن يجير أبا بكر ويحميه لكي يعبد ربه في مكة، يقول الراوي:  (فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين). [البخاري: 2297]   هذه الكلمة (فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم) من العبارات التي تطرق ذهني كثيراً حين أسمع تالياً للقرآن يأخذ الناس بتلابيبهم .. ومعنى يتقصّف أي يزدحمون ويكتظون حوله مأخوذين بجمال القرآن.. فانظر كيف كان ابوبكر لايحتمل نفسه إذا قرأ القرآن فتغلبه دموعه .. وانظر لعوائل قريش كيف لم يستطع عتاة وصناديد الكفار عن الحيلولة بينهم وبين الهرب لسماع القرآن..

ومن أكثر الأمور إدهاشاً أن الله -جل وعلا- عرض هذه الظاهرة البشرية أمام القرآن كدليل وحجة، فالله سبحانه وتعالى نبهنا إلى أن نلاحظ سطوة القرآن في النفوس باعتبارها من أعظم أدلة هذا القرآن ومن ينابيع اليقين بهذا الكتاب العظيم، ولم يشر القرآن إلى مجرد تأثر يسير، بل يصل الأمر الخرور إلى الأرض .. هل هناك انفعال وتأثر وجداني أشد من السقوط إلى الأرض؟ تأمل معي هذا المشهد المدهش الذي يرويه ربنا جل وعلا عن سطوة القرآن في النفوس: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} (107) سورة الإسراء   بالله عليك أعد قراءة هذه الآية وأنت تتخيل هذا المشهد الذي ترسم هذه الآية تفاصيله: قوم ممن أوتو حظاً من العلم حين يتلى عليهم شئ من آيات القرآن لايملكون أنفسهم فيخرون إلى الأرض ساجدين لله تأثراً وإخباتاً .. يا ألله ما أعظم هذا القرآن..   بل تأمل في أحوال قوم خير ممن سبق أن ذكرهم الله في الآية السابقة .. استمع إلى انفعال وتأثر قوم آخرين بآيات الوحي، يقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}   هذه الآية تصور جنس الأنبياء .. ليس رجلاً صالحاً فقط.. ولا قوم ممن أوتو العلم .. ولا نبي واحد أو نبيين .. بل تصور الآية (جنس الأنبياء)  .. وليست الآية تخبر عن مجرد أدب عند سماع الوحي وتأثر يسير به .. بل الآية تصور الأنبياء كيف يخرون إلى الأرض يبكون..   الأنبياء .. جنس الأنبياء .. يخرون للأرض يبكون حين يسمعون الوحي .. ماذا صنع في نفوسهم هذا الوحي العجيب؟   وقوم آخرون في عصر الرسالة ذكر الله خبرهم في معرض المدح والتثمين الضمني في صورة أخاذة مبهرة يقول تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:83]   أي شخص يقرأ الآية السابقة يعلم أن هذا الذي فاض في عيونهم من الدموع حين سمعوا القرآن أنه شئ فاق قدرتهم على الاحتمال .. هذا السر الذي في القرآن هو الذي استثار تلك الدمعات التي أراقوها من عيونهم حين سمعوا كلام الله .. لماذا تساقطت دمعاتهم؟ إنها أسرار القرآن..   هذه الظاهرة البشرية التي تعتري بني الإنسان حين يسمعون القرآن ليست مجرد استنتاج علمي أو ملاحظات نفسانية.. بل هي شئ أخبرنا الله أنه أودعه في هذا القرآن .. ليس تأثير القرآن في النفوس والقلوب فقط .. بل –أيضاً- تأثيره الخارجي على الجوارح .. الجوارح ذاتها تهتز وتضطرب حين سماع القرآن.. قشعريرة عجيبة تسري في أوصال الإنسان حين يسمع القرآن .. يقول تعالى: { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر : 23]   لاحظ كيف يرسم القرآن مراحل التأثر، تقشعر الجلود، ثم تلين، إنها لحظة الصدمة بالآيات التي يعقبها الاستسلام الإيماني، بل والاستعداد المفتوح للانقياد لمضامين الآيات.. ولذلك مهما استعملت من (المحسّنات الخطابية) في أساليب مخاطبة الناس وإقناعهم فلايمكن أن تصل لمستوى أن يقشعر الجلد في رهبة المواجهة الأولى بالآيات، ثم يلين الجلد والقلب لربه ومولاه، فيستسلم وينقاد بخضوع غير مشروط..   هذا شئ يراه المرء في تصرفات الناس أمامه.. جرب مثلاً أن تقول لشخص يستفتيك: هذه معاملة بنكية ربوية محرمة بالإجماع، وفي موقف آخر: قدم بآيات القرآن في تحريم الربا، ثم اذكر الحكم الشرعي، وسترى فارق الاستجابه بين الموقفين؛ بسبب ماتصنعه الآيات القرآنية من ترويض النفوس والقلوب لخالقها ومولاها، تماماً كما قال تعالى (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ)..   وفي مقابل ذلك كله .. حين ترى بعض أهل الأهواء يسمع آيات القرآن ولايتأثر بها، ولايخضع لمضامينها، ولاينفعل وجدانه بها، بل ربما استمتع بالكتب الفكرية والحوارات الفكرية وتلذذ بها وقضى فيها غالب عمره، وهو هاجر لكتاب الله يمر به الشهر والشهران والثلاثة وهو لم يجلس مع كتاب ربه يتأمله ويتدبره ويبحث عن مراد الله من عباده، إذا رأيت ذلك كله؛ فاحمد الله يا أخي الكريم على العافية، وتذكر قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]   وحين يوفقك ربك فيكون لك حزب يومي من كتاب الله (كما كان لأصحاب رسول الله أحزاب يومية من القرآن) فحين تنهي تلاوة وردك اليومي فاحذر يا أخي الكريم أن تشعر بأي إدلال على الله أنك تقرأ القرآن، بل بمجرد أن تنتهي فاحمل نفسك على مقام إيماني آخر؛ وهو استشعار منة الله وفضله عليك أن أكرمك بهذه السويعة مع كتاب الله، فلولا فضل الله عليك لكانت تلك الدقائق ذهبت في الفضول كما ذهب غيرها، إذا التفتت النفس لذاتها بعد العمل الصالح نقص مسيرها إلى الله، فإذا التفتت إلى الله لتشكره على إعانته على العبادة ارتفعت في مدارج العبودية إلى ربها ومولاها، وقد نبهنا الله على ذلك بقوله تعالى (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) [النور: 21]   فتزكية النفوس فضل ورحمة من الله يتفضل بها على عبده، فهو بعد العبادة يحتاج إلى عبادة أخرى وهي الشكر والحمد، وبصورة أدق فالمرء يحتاج لعبادة قبل العبادة، وعبادة بعد العبادة، فهويحتاج لعبادة الاستعانة قبل العبادة، ويحتاج لعبادة الشكر بعد العبادة.. وكثير من الناس إذا عزم على العبادة يجعل غاية عزمه التخطيط والتصميم الجازم .. وينسى أن كل هذه وسائل ثانوية .. وإنما الوسيلة الحقيقية هي (الاستعانة) .. ولذلك وبرغم أن الاستعانة في ذاتها عبادة إلا أن الله أفردها بالذكر بعد العبادة فقال (إياك نعبد وإياك نستعين) .. وهذه الاستعانة بالله عامة في كل شئ، في الشعائر، وفي المشروعات الاصلاحية، وفي مقاومة الانحرافات الشرعية، وفي الخطاب الدعوي، فمن استعان بالله ولجأ إليه فتح الله له أبواب توفيقه بألطف الأسباب التي لايتصورها..   اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم أحي قلوبنا بكتابك، اللهم اجعلنا ممن إذا استمع للقرآن اقشعر جلده ثم لان جلده وقلبه لكلامك، اللهم اجعلنا ممن إذا سمع ما أنزل إلى رسولك تفيض عيوننا بالدمع، اللهم اجعلنا ممن إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرو سجداً وبكياً، اللهم إنا نعوذ بك ونلتجئ إليك ونعتصم بجنابك أن لاتجعلنا من القاسية قلوبهم من ذكر الله.

 

أبو عمر

جمادى الأولى 1431هـ

6 مايو 2010

الراضـون

تعليق واحد

من الأشياء التي تبتهج بها نفسي حين يتهادى إلى أذني صوت أحد كبار السن يذكر الله.. لا أدري لماذا يكون لزجل ذي الشيبة بالتسبيح وقع تنفسح به أرجاء النفس.. وأحس بسكينة غريبة تغشى المكان من حولي.. بل وأشعر أن ثمة توتراً يغادر المكان.. بمجرد أن تطفو همساتهم المتهدجة بعبارة “سبحااان الله.. سبحاااان الله”.. وخصوصاً إذا كان في أواخر الليل وهم يحملون على أنفسهم إما لصلاة أو قراءة أوغيرها .. ومن الأمور التي كانت تشد انتباهي أن كل من رأيت من كبار السن الصالحين اللاهجين بذكر الله، أنهم يعيشون “رضا نفسي” عجيب ومدهش.. لا أعرف أحداً من كبار السن الذاكرين لله إلا ولاحظت في روحه طيب الخاطر والانشراح والرضا الذاتي.. وبكل صراحة فإنه لم تكن الظاهرتان مرتبطتان في ذهني بصورة واضحة، ولكن قبل أيام يسيرة مرت بي آية من كتاب الله كأنها كشفت لي سر هذا المعنى، وكيف يكون التسبيح سائر اليوم سبباً من أسباب الرضا النفسي، يقول الحق تبارك وتعالى:   (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [طه:130]   لاحظ في هذه الآية كيف استوعبت سائر اليوم.. قبل الشروق والغروب، وآناء الليل التي هي ساعاته، وأول النهار وآخره، ماذا بقي من اليوم لم تشمله الآية بالحث على التسبيح؟ ولذلك شرع الله في هذه المواضع أعظم التسبيح وهي الصلاة، والرضا في هذه الآية عام في الدنيا والآخرة..   فسبحان من جعل النفوس ترتوي بالرضا من ينابيع التسبيح.. وكم نحن مغبونون في أيام وليالي وسنين تصرمت دون أن نعمر آناء الليل وأطراف النهار بالتسبيحات.. ياخسارة تلك السنوات.. فسبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.. اللهم اجعلنا لك من المسبحين..  

 

 

أبو عمر

ربيع الثاني 1431هـ

4 أبريل 2010

Older Entries