مؤسسة انتقاص السنة النبوية

تعليق واحد

  الحمدلله وبعد.

صباح هذا اليوم الثلاثاء اطلعت في صحيفة الحياة 30/3/2010م، على مقالة كتبها الأستاذ  (حسن بن سالم) دفاعاً عن الأستاذ (يحي الأمير).   حيث يدعي حسن بن سالم أن ما قام به يحي الأمير من وصف حديث الصحيحين بالتوحش إنما هو ( مسلك لتنزيه الأحاديث النبوية عن كل ما قد يؤدي للقدح فيها أو في دين الإسلام) ، واحتج لذلك كما يقول بأن (هذا المسلك سلكه من قبل بعض كبار الأئمة، وأشير في هذا المقام إلى مثالين، أولهما حجة الإسلام الإمام أبو بكر الجصاص، وأما المثال الآخر فهو محمد رشيد رضا).   ثم نقل الأستاذ حسن سالم عن الجصاص أنه رد أحاديث “سحر النبي” صلى الله عليه وسلم التي رواها البخاري، ونقل عن رشيد رضا رده لحديث “إذا وقع الذباب” المروي في البخاري.   توقفت أمام هذه المقالة وتعجبت كثيراً من مواصلة هذا الفريق الليبرالي انتقاص السنة النبوية، وإيذاء المؤمنين في نبيهم ومهابته في نفوسهم، أي قلوب هذه التي مات فيها توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبرد بعد لهيب جريرة يحي الأمير في التهكم بنصيحة النبي لنا، حتى جاء حسن سالم الآن يبعث الفتنة من جديد.

حين رأيت يحي الأمير منكسراً في البيان التالي استبشرت خيراً بعودة هيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء الآن حسن سالم يبحث عن أسانيد تراثية ليشرعن بها التهكم بالحديث النبوي. أي فوضى هذه التي تحدث؟! والله شيء محزن أن تصل مهابة النبي في أرض الحرمين إلى هذا المستوى!   ومكمن الخطورة في هذه المقالة هي أنها مؤشر على أن القوم لازالوا ماضين في مشروعهم في السخرية بالأحاديث النبوية، بل ويبحثون عن جذور تراثية تساندهم في ذلك.  

على أية حال .. دعونا ننظر موضوعياً مدى علمية احتجاجات حسن سالم؟ الحقيقة أن أي طالب علم شرعي سيطلع على مرافعة حسن سالم عن صاحبه يحي الأمير فإنه سيدركه الرثاء والشفقة حين يرى المرء يحتج لنفسه بما هو دليل عليه.   فأما احتجاج حسن سالم بفعل أبي بكر الرازي المعروف بالجصّاص، فإن أبا بكر هذا قد دخل في الاعتزال، وتجرؤه في رد الأحاديث النبوية إنما دخل عليه بسبب اعتزالياته، وليس ثم جديد في كون الفرق الضالة ترد السنن النبوية.

وقد عدّه الإمام ابن تيمية في المعتزلة حين ذكر أقواله، كقول الإمام ابن تيمية (ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع) [الفتاوى، 19/12] . وابن تيمية يشير إلى قول ابي بكر الجصاص الرازي في تفسيره: (ضرر أصحاب العزائم وفتنتهم على الناس غير يسير، وذلك أنهم يدخلون على الناس من باب أن الجن إنما تطيعهم بالرقى التي هي أسماء اللّه تعالى، فإنهم يجيبون بذلك من شاءوا ويخرجون الجن لمن شاءوا، فتصدقهم العامة) [تفسير الجصاص، 1/57] .وعده في المعتزلة كذلك مؤرخ الإسلام الذهبي حيث يقول (وكان يميل إلى الإعتزال، وفي تصانيفه ما يدل على ذلك في مسألة الرؤية وغيرها) [تاريخ الإسلام للذهبي، 26/432] . والذهبي يشير لكون الجصاص شكّك في أحاديث “رؤية الله في الآخرة” بناء على بعض أصوله الاعتزالية كما يقول الجصاص سامحه الله (والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحت) [تفسير الجصاص، 4/170].

وكذلك فإن الذين ترجموا لأعلام المعتزلة عدّوه منهم، ولذلك أدرجه القاضي عبدالجبار في (فرق وطبقات المعتزلة، ص125) وترجم له ابن المرتضى في (طبقات المعتزلة، ص130)، وإن كانوا يتوسعون في ذلك ويتكثرون بمن ليس منهم.   وبسبب هذه الروح الاعتزالية عند ابي بكر الجصاص فإنك تجد عنده جرأة المعتزلة على أئمة أهل الحديث والأثر، حتى أنه قال عن نافع مولى ابن عمر (قال ذلك نافع بعد ما كبر وذهب عقله) [2/40] وما أبشعها من عبارة.

وكذلك قال عن الإمام حافظ الدنيا سفيان بن عيينة  (وقد كان ابن عيينة سيئ الحفظ كثير الخطأ) [1/186] ومن يقول هذا الكلام عن سفيان بن عيينة الذي هو أحد من دارت عليهم أسانيد طبقة أتباع التابعين؟!   ومثل هذه الجرأة في لمز أئمة أهل الأثر هي من أخص خصائص الروح الاعتزالية، ومن راجع  مقدمة ابن قتيبة لكتابه “تأويل مختلف الحديث” استحوذ عليه العجب من تلك القصص والأخبار التي ساقها ابن قتيبة عن سلوكيات وتصرفات أئمة المعتزلة.  

على أن الإنصاف يقتضي أن نشير إلى أن الجصاص ليس من المعتزلة الخلّص، وإنما شارك المعتزلة في بعض أصولهم، وتسربت إليه بعض ضلالاتهم من بعض شيوخ المعتزلة الذين درس عليهم، وأما كتابه عن “أحكام القرآن” ففيه من نفائس الاستنباطات والمناقشات شيئاً لايستغني عنه طالب العلم، ولكن المراد هنا التنبيه إلى خطأ التذرع والاحتجاج بأخطائه الاعتزالية في رد السنن.  

وأما احتجاج الأستاذ حسن سالم بكون رشيد رضا رد بعض الأحاديث الصحيحة بالذوق المحض، فمثل هذا الاحتجاج يعكس جهلاً بتحولات الأستاذ رشيد رضا، فالأستاذ رشيد رضا مر بثلاث مراحل، كان في مرحلته الأولى صوفياً كما يقول عن نفسه في مقدمة تفسير المنار (كنت من قبل اشتغالي بطلب العلم في طرابلس الشام مشتغلا بالعبادة ميالا إلى التصوف).   ثم في المرحلة الثانية تعرف على مايسمى بالمدرسة الإصلاحية التي كان زعيماها الأفغاني وعبده، وهي مدرسة تحارب الملاحدة وأهل السنة على حد سواء، وتبني أفكارها في صورة إسلام مستغرب، وقد انبهر رشيد رضا بأستاذه محمد عبده وانفعل به كثيراً كما يقول في مقدمة تفسيره (في أثناء هذه الحال الغالبة علي ظفرت يدي بنسخ من جريدة ” العروة الوثقى ” في أوراق والدي ، فلما قرأت مقالاتها أثرت في قلبي تأثيرا دخلت به في طور جديد من حياتي، تلك المقالات التي حببت إلي حكيمي الشرق، ومجددي الإسلام، ومصلحي العصر: السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري).   وبدأت المرحلة الثالثة من وفاة الشيخ محمد عبده حيث تناقص التأثير التغريبي السلبي الذي شحنه به أستاذه محمد عبده، وبدأ يزداد عنده الميل إلى أهل السنة وتعظيم الحديث، وطباعة كتب السلف، وكثرة التنويه بابن تيمية، والدفاع عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ولذلك يقول أيضاً في مقدمة تفسيره عن مرحلته الثالثة هذه (هذا وإنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته –أي الشيخ محمد عبده- خالفت منهجه رحمه الله بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة).

لكن الشيخ رشيد رضا توفي ولايزال لديه -رحمه الله- أخطاء عظيمة بسبب أنه لم يتوفر له الوقت لاستكمال التصحيح والتخلص من التخليط بين منهج أهل السنة ومنهج متفقهة التغريب، وسائر مايوجد لمشايخ أهل السنة المعاصرين من ثناء على رشيد رضا فإنما هو بسبب ماحمدوه له من التحول الإجمالي إلى نصرة طريقة السلف، كما حمدوا ذلك لأبي الحسن الأشعري مع أنه بقي لديه شُعَبٌ من الكلابية في عقيدته الأخيرة لم يتخلص منها، والمراد أن ثناء مشايخ أهل السنة على رشيد رضا كان من هذا الوجه، فلايعني ذلك تصحيح أفكاره التفصيلية المخالفة لمنهج أهل السنة التي لاتزال موجودة في مجلة المنار وتفسير المنار.   

ومن الإنصاف أن نشير -أيضاً- إلى أن بعض أهل السنة لم يطلعوا على سائر نتاجه، ولذلك كانوا يحسنون الظن به، فالإمام ابن عثيمين –مثلاً- يثني في مواضع من كتبه على رشيد رضا بسبب تعظيمه للحديث في زمن قل من ينصره فيه، برغم أن الشيخ ابن عثيمين يشنع في مسائل من العقيدة وأصول التلقي ومنهج الفتيا قد زلت فيها قدم رشيد رضا، لكن الشيخ لم يكن معنياً بتتبع كلام رشيد رضا.   والمراد أن ماوجد من ثناء لمشايخ أهل السنة المعاصرين على رشيد رضا إنما هو ثناء إجمالي على توجهه العام وتحوله لنصرة السنة، وليس على ثناءً على آحاد أفكاره التفصيلية، وماتبقى لديه من دخن التغريب، والزلات العظيمة في أصول التلقي.   ومن الطريف في هذه القضية أن هؤلاء الليبراليين يحتجون بما وقع من أئمة الحديث المتقدمين من نقد المتون، والقضية ليست في نقد المتون بطريقة المحدثين التي تجمع بين علة السند وعلة المتن كالشذوذ والنكارة ونحوها مما يعرف بمقارنة طرق الحديث، وإنما القضية في التبجح برد الأحاديث بالذوق المحض تحت تأثير الثقافة والقيم الغربية، وهذا بخلاف نقد المتون إذا خالفت العقل القطعي أو خالف الراوي من هو أوثق منه ونحو ذلك، وقد توسع ابن القيم في المنار المنيف في ذكر قواعد نقد المتون عند أهل السنة والجماعة.   ولا أخفي أنني لم أستطع أن أكظم تبسمي حين رأيت البعض يحتجّ لفعل يحي الأمير بما يصنعه أئمة الحديث كابن المديني وابن معين ونحوهم! أي إزراء بالعلم وأي استهانة بأئمة الدين أن تفسر تبجحات وتطاولات الصحفيين بأنها من جنس فعل ابن المديني وابن معين؟! هذه والله غاية المهزلة.. أتمنى أن لايأتي اليوم الذي نرى فيه محتجاً يقارن بين منهج ابن بخيت ومنهج الدارقطني في تعليل الأحاديث، أو يقارن منهج ليلى الأحيدب ومنهج الطبري في تفسير القرآن! والله إنني أشعر بالغثيان حين يهان العلم والمعرفة بهذا الإسفاف.   والمراد من هذه المناقشة ليس ذات المسألة، وإنما كونها مجرد أمثلة لتوضيح أزمة الضحالة العلمية لدى شريحة (الليبرالية التنفيذية)، فيحي الأمير ينسب للشنقيطي والألباني أقوالاً اعتماداً على مقالات انترنتية مكذوبة، والمحامي حسن سالم يدافع عن صاحبه اعتماداً على نصوص لايعرف أنها بنيت على أصول المعتزلة، ويظنها من نصوص أهل السنة!   فهذا هو جنس علمهم، وهذه هي طبيعة احتجاجاتهم، والحمدلله على العافية. والمرء حين يقارن أحوال مشايخنا الكبار في طول طلبهم للعلم وكمال ورعهم وتصونهم وتحريهم، ويقارنه بهؤلاء الذين بنو دينهم على مقالات انترنتية، ونقول حاطب ليل؛ فإنه لايستطيع أن يمنع ذهنه من تذكر قوله تعالى  (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) [التوبة:109]   خلاصة القول أن فكرة المحامي حسن سالم هي أن وصف يحي الأمير لحديث الصحيحين بأنه “متوحش” إنما أراد به الدفاع عن النبي وليس القدح فيه، وأن لاينسب للنبي مايسئ إليه، وهذه حجة مستهلكة للعلمانيين يتسترون بها في تحريف الشريعة، وسيأتي هؤلاء تدريجياً وسيجحدون كل حكم شرعي يتعارض مع الثقافة الغربية باسم الدفاع عن النبي حتى لاينسب إليه مايسئ لصورته في الإعلام الغربي، وهكذا تلغى أحكام المرأة، وأحكام الجهاد، وأحكام الكافر، الخ باسم الدفاع عن الإسلام من أن تتشوه صورته في الوعي الغربي.   والمراقب إذا رأى هؤلاء كيف يتجرؤون في وصف حديث الرسول بأنه متوحش، ويصرون على ذلك، ثم إذا قارن ذلك بهلعهم وارتعاد فرائصهم إذا ذكرت عبارات بعض المسئولين الكبار، تعجب كيف صارت منزلة ملك من ملوك الأرض أعظم في قلوبهم من منزلة ملك الملوك سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) [الحشر:13]   أسأل الله أن يعمر قلوبنا جميعاً بتوقير سيد ولد آدم، وتعظيم حرمته، والهيبة عند سماع حديثه صلى الله عليه وسلم.  

أبو عمر

ربيع الثاني 1431هـ

31 مارس 2010

من أخبار المتساهلين بالجناب المحمدي

أضف تعليق

 

        في مدينة دمشق، وفي عام (704هـ) كان هناك شخص يقال له “الكمال الأحدب”، وفي أثناء نقاش حاد ألقى هذا الكمال الأحدب عبارة تتضمن الغض من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال لخصمه أثناء النزاع: (تكذب ولو كنت رسول الله).   فتطور الأمر قضائياً بصورة لم يتوقعها هذا الرجل بتاتاً.. حيث كان قاضي دمشق حينها هو العلامة الفقيه جمال الدين المالكيلألقى ، وقد مكث قاضياً لدمشق ثلاثين سنة، وكان ممن درس على الإمام العز بن عبدالسلام (صاحب قواعد الأحكام).   ولندع المؤرخ ابن العماد الحنبلي يروي لنا القصة بأسلوبه المختصر حيث يقول:   (وفي هذه السنة –أي سنة 704هـ- ضربت رقبة الكمال الأحدب، وسببه أنه جاء إلى القاضي جمال الدين المالكي يستفتيه، وهو لا يعلم أنه القاضي، فقال: ما تقول في إنسان تخاصم هو وإنسان فقال له الخصم “تكذب ولو كنت رسول الله”؟. فقال له القاضي: من قال هذا؟ قال: أنا. قال فأشهد عليه القاضي من كان حاضراً، وحبسه، وأحضره من الغد إلى دار العدل وحكم بقتله) [شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، 6/9]   وهذا القاضي جمال الدين المالكي استمر في تطبيق حد القتل على من يتعرض لجناب رسول الله، يقول عنه الإمام ابن حجر العسقلاني: (وكان صارماً مهيباً، أراق دم جماعة تعرضوا للجناب المحمدي) [الدرر الكامنة، لابن حجر].   ويقول عنه –أيضاً- المؤرخ صلاح الدين الصفدي: (كان قاضياً يبلغ به الضعيف مرامه، ماضي الأحكام بتاتاً، أراق دم جماعة تعرضوا لجناب النبي صلى الله عليه وسلم) [أعيان العصر، للصفدي]   وممن نقل وقائع قضائية ذات صلة بهذا الموضوع الإمام القاضي عياض -رحمه الله- في كتابه المشهور (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) ومن الأخبار التي نقلها رحمه الله قوله: (وأفتى أبو عبد الله بن عتاب في عشّار -أي جابي المكوس- قال لرجل: أدِّ واشكِ إلى النبي!، وقال: إن سألت أو جهلت فقد جهل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: بالقتل. وأفتى فقهاء الأندلس بقتل “ابن حاتم المتفقه الطليطلى” وصلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميته إياه أثناء مناظرته بـ”اليتيم” ، و “ختن حيدرة”، وزعمه أن زهده لم يكن قصداً ولو قدر على الطيبات أكلها، إلى أشباه لهذا.  وأفتى فقهاء القيروان وأصحاب سحنون بقتل “ابراهيم الفزارى” وكان شاعراً متفنناً في كثير من العلوم، وكان ممن يحضر مجلس القاضى أبى العباس بن طالب للمناظرة، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه وسلم، فأحضر له القاضى “يحيى بن عمر” وغيره من الفقهاء، وأمر بقتله وصلبه، فطعن بالسكين وصلب منكساً) [الشفا، للقاضي عياض، 2/218].

وأما في عصر الإمام ابن تيمية فقد كانت أشهر قضية شارك فيها ابوالعباس ابن تيمية نفسه هي قضية “الكاتب عساف” الذي ألقى عبارة فيها غض من مقام النبوة، فنقل خبر الحادثة لابن تيمية، فجمع ابن تيمية مجموعة من المحتسبين وتحرك لدى القضاء الشرعي، وتعرض ابن تيمية لمصاعب جمة في هذه القضية، حتى أنه اعتقل وجلد رحمه الله، وألف فيها كتاباً موسعاً انتصاراً لجناب النبي من أن ينال بتعريض أو انتقاص، ولندع ابن كثير يروي لنا الحادثة بطريقته السلسة رحمه الله:   قال ابن كثير في تاريخه: (واقعة عساف النصراني: كان هذا الرجل من أهل السويداء قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استجار عساف هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الامير عز الدين أيبك الحموي نائب السلطنة فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليحضره فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس عسافا حين قدم ومعه رجل من العرب فسبوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم – يعني النصراني – فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسافا ووقعت خبطة قوية، فأرسل النائب فطلب الشيخين ابن تيمية والفارقي فضربهما بين يديه، ورسم عليهما –أي اعتقلهما- في العذراوية، وقدم النصراني فأسلم وعقد مجلس بسببه، وأثبت بينه وبين الشهود عداوة، فحقن دمه، ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله ابن أخيه هنالك، وصنف الشيخ تقي الدين بن تيمية في هذه الواقعة كتابه الصارم المسلول على ساب الرسول)  [البداية والنهاية، لابن كثير، 13/396] .

وأما الكتاب الذي ألفه ابن تيمية في هذه الأزمة وهو “الصارم المسلول على شاتم الرسول” فقد قال في مطلعه: (اقتضاني لحادث حدث أدنى ماله –أي رسول الله- من الحق علينا، بل هو ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن، وحفظه وحمايته من كل موذ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) [الصارم المسلول، لابن تيمية، 2].

والحقيقة أن جوهرة كتاب ابن تيمية هي هذه الجملة  المضمخة بكل معاني العزة والاستعلاء بهذا الدين وتوقير نبيه في القلوب حيث يقول رحمه الله: (فإن الكلمة الواحدة من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار، ولأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مستهان) [الصارم المسلول، لابن تيمية، 505].

 لامساومة بتاتاً على جناب رسول الله ومهابته في النفوس، وهكذا كانت سيرة أئمة وفقهاء وقضاة المسلمين، لم يكونوا يعتبرون أي عبارة فيها غض من مقام النبوة مسألة “خلاف فكري” و “وجهات نظر” تتم مناقشتها على طاولة الحوار، بل كانوا يعتبرونها قضية تعرض على سيف القضاء الشرعي، بالطرق المشروعة، ويختص بتنفيذها ولي الأمر فلايفتأت عليه.   هكذا كانت منزلة جناب رسول الله في نفوس المسلمين..

 

 

أبو عمر

ربيع الثاني 1431هـ

28 مارس 2010

كتائب الاحتساب في عصر ابن تيمية

أضف تعليق

أحد الكتّاب المسيحيين في دمشق، كان يعمل لدى أحد الأمراء واسمه عساف، ونتيجة للدعم السياسي الذي يتمتع به هذا المسيحي فإنه أطلق عبارات جارحة في حق الرسول، فدهش الشباب المسلم ذي الغيرة والحمية وذهبوا للشيخ ابن تيمية يخبرونه بالمنكر، فجمع ابن تيمية الناس وساروا إلى السلطان في كتيبة احتسابية مهيبة تخللتها صعوبات وأحداث مرت بمواجهة الشباب للأمير الذي حمى النصراني وانفلات الوضع ورجم الأمير بالحجارة، ثم سجن ابن تيمية نفسه وجلده بسبب ذلك، ثم مع تصاعد الأزمة أعلن النصراني الإسلام ليحقن دمه، فواصل ابن تيمية المواجهة وألف كتاباً موسعاً جداً يثبت فيه أن حق النبي لايذهب بالإسلام ويجب قتل النصراني الكاتب، وازدادت الأحداث حدة وانتهى الكاتب النصراني والأمير عساف الذي حماه نهاية مأساوية فظيعة. وهذه نصوص المؤرخين الذين جايلوا تلك الفترة أو قاربوها، وهم الثلاثة الكبار حقاً (الذهبي، وابن كثير، وابن حجر) :  
قال الذهبي في تاريخه: (عسّاف ابن الأمير أحمد بن حجيّ. زعيم آل مري. أعرابي شريف، مطاع. وهو الذي حمى النصراني الذي سب، فدافع عنه بكل ممكن. وكان هذا النصراني لعنه الله بالسويداء وقع منه تعرض للنبي صلى الله عليه وسلم، فطلع الشيخان زين الدين الفارقي، وتقي الدين ابن تيمية في جمع كبير من الصلحاء والعامة إلى النائب عز الدين أيبك الحموي، وكلماه في أمر الملعون، فأجاب إلى إحضاره وخرجوا، فرأى الناس عساف، فكلموه في أمره، وكان معه بدوي، فقال: إنه خير منكم. فرجمته الخلق بالحجارة. وهرب عساف، فبلغ ذلك نائب السلطنة، فغضب لافتتان العوام. وإلا فهو مسلم يحب الله ورسوله، ولكن ثارت نفسه السبعية التركية، وطلب الشيخين، فأخرق بهما، وضربا بين يديه، وحبسا بالعذراوية، وضرب جماعة من العامة، وحبس منهم ستة، وضرب أيضاً والي البلد جماعة، وعلق جماعة. ثم سعى نائب السلطنة كما لقن في إثبات العداوة بين النصراني وبين الذين شهدوا عليه من السويدا ليخلصه بذلك. وبلغ النصراني الواقعة فأسلم، وعقد النائب مجلساً، فأحضر القاضي ابن الخويي وجماعة من الشافعية، واستفتاهم في حقن دمه بعد الإسلام، فقالوا: مذهبنا أن الإسلام يحقن دمه. وأحضر الشيخ زين الدين الفارقي، فوافقهم، فأطلق. ثم أحضر الشيخ تقي الدين، فطيب خاطره، وأطلقه والجماعة بعد أن اعتقلوه عدة أيام ثم أحضر النصراني إلى دمشق فحبس، وقام الأعسر المشد في تخليصه، فأطلق وشق ذلك على المسلمين. وأما عساف فقتله بقرب المدينة النبوية في ربيع الأول من هذه السنة ابن أخيه جماز بن سليمان، وفرح الناس) [تاريخ الإسلام، للذهبي، 52/222].
وقال ابن كثير في تاريخه: (واقعة عساف النصراني: كان هذا الرجل من أهل السويداء قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استجار عساف هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الامير عز الدين أيبك الحموي نائب السلطنة فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليحضره فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس عسافا حين قدم ومعه رجل من العرب فسبوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم – يعني النصراني – فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسافا ووقعت خبطة قوية، فأرسل النائب فطلب الشيخين ابن تيمية والفارقي فضربهما بين يديه، ورسم عليهما –أي حبسهما- في العذراوية، وقدم النصراني فأسلم وعقد مجلس بسببه، وأثبت بينه وبين الشهود عداوة، فحقن دمه، ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله ابن أخيه هنالك، وصنف الشيخ تقي الدين بن تيمية في هذه الواقعة كتابه الصارم المسلول على ساب الرسول)  [البداية والنهاية، لابن كثير، 13/396]   -وقال الذهبي في تاريخه أيضاً: (وفيها كانت فتنة عساف بدمشق ورجم العوام له، لكونه حمى نصرانيا سب النبي صلى الله عليه وسلم، فقبض النائب الحموي على جماعة من العلماء، وضرب الشيخ زين الدين الفارقي، رحمه الله تعالى، واعتقله مع ابن تيمية وطائفة بالعذراوية مدة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) [تاريخ الاسلام، للذهبي، 52/33].
وقال ابن كثير في تاريخه أيضاً:(وفيها -في أواخر ربيع الاول- جاء الخبر بأن عساف بن أحمد بن حجى الذي كان قد أجار ذلك النصراني الذي سب الرسول قتل ففرح الناس بذلك) [البداية والنهاية، لابن كثير، 13/401]
وقال ابن حجر: (وكان الحسام –أي حسام الدين الحنفي القاضي- ممن قام في الإنكار في قصة الكاتب النصراني، كاتب عساف أمير العرب. وكان ينقل عنه أنه وقع في حق النبي صلى الله عليه وسلم. فقام في إمرة تقي الدين ابن تيمية، وزين الدين الفارقي. وعقد بسبب ذلك مجالس. وتعصب الشمس الأعشر شاد الدواوين للنصراني، فما وسع النصراني لما خشي على نفسه إلا أنه أسلم فأطلق، فقال القاضي حسام الدين في ذلك: إلام فتور العزم يا آل أحمد … بإبقاء كلبٍ سبًّ دين محمدِ وكان إذا ما أذَّن القوم سبَّه … وكان بذكر القبح فيه بمرصدِ يا سلامة لا يُدرأ الحد بعد ما … تكرر منه الشر من كل موردِ على مثله أهل المذاهب أجمعوا … فكن ممضياً في نحره بمهنّدِ فأنتم ليوث الحرب في كل مَعْرَكٍ … وأنتم سهام العزو في كل مشهدِ وهي طويلة، وهذا عنوان نظمه) [رفع الإصر عن قضاة مصر، لابن حجر] ،
وأما الكتاب الذي ألفه ابن تيمية في هذه الأزمة وهو “الصارم المسلول على شاتم الرسول” فقد قال في مطلعه: (اقتضاني لحادث حدث أدنى ماله –أي رسول الله- من الحق علينا، بل هو ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن، وحفظه وحمايته من كل موذ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) [الصارم المسلول، لابن تيمية، 2].
والحقيقة أن ألماسة الكتاب كله قول الإمام ابن تيمية مقولته العابرة لكل مشاعر العزة والاستعلاء بهذا الدين: (فإن الكلمة الواحدة من سب النبي صلى الله عليه وسلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار، ولأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مستهان) [الصارم المسلول، لابن تيمية، 505]هكذا يفهم ابوالعباس “أولويات الدعوة” .. عزة الدين ومهابته أولى في نفوسنا من إسلام الأعداد الغفيرة وهو مستهان به مزدرى محتقر! فليس لدينا استعداد أن نطاوع النفوذ الإعلامي التغريبي في (تقزيم العقيدة والشريعة) لكي يقبلو بخطابنا الديني .. كلا .. ليست هذه في وارد حساباتنا .. لامساومة بتاتاً على عزة الإسلام وشرفه ومهابته في النفوس .. حرف واحد من الوحي لايمكن بتاتاً أن يكون موضوعاً لصفقة إعلامية مهما كانت المكتسبات ! كما قال ابوالعباس تماماً (ولأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن؛ أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مستهان).. إنها غاية “ظهور الدين: التي قال الله عنها في ثلاث مواضع من كتابه في سورة التوبه والفتح والصف: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله).
اللهم أنزل سحائب الرحمات على قبر أبي العباس يارب العالمين .. بنصرته لكتابك ونبيك والسابقين الأولين إلى الإسلام.. اللهم آمين.
أبو عمر
صفر 1431هـ
24 يناير 2010